فصل: تفسير الآية رقم (3):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.سورة الفجر:

سورة الفجر مكية، وهي ثلاثون آية.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

.تفسير الآيات (1- 2):

{وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2)}
قوله تعالى: {وَالْفَجْرِ} أقسم بالفجر. {وَلَيالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ} أقسام خمسة. واختلف في الْفَجْرِ، فقال قوم: الفجر هنا: انفجار الظلمة عن النهار من كل يوم، قاله علي وابن الزبير وابن عباس رضي الله عنهم. وعن ابن عباس أيضا أنه النهار كله، وعبر عنه بالفجر لأنه أوله.
وقال ابن محيصن عن عطية عن ابن عباس: يعني الفجر يوم المحرم. ومثله قال قتادة. قال: هو فجر أول يوم من المحرم، منه تنفجر السنة.
وعنه أيضا: صلاة الصبح.
وروى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: {وَالْفَجْرِ}: يريد صبيحة يوم النحر، لان الله تعالى جل ثناؤه جعل لكل يوم ليلة قبله، إلا يوم النحر لم يجعل له ليلة قبله ولا ليلة بعده، لان يوم عرفة له ليلتان: ليلة قبله وليلة بعده، فمن أدرك الموقف ليلة بعد عرفة، فقد أدرك الحج إلى طلوع الفجر، فجر يوم النحر. وهذا قول مجاهد.
وقال عكرمة: {وَالْفَجْرِ} قال: انشقاق الفجر من يوم جمع. وعن محمد بن كعب القرظي: {وَالْفَجْرِ} آخر أيام العشر، إذا دفعت من جمع.
وقال الضحاك: فجر ذي الحجة، لان الله تعالى قرن الأيام به فقال: {وَلَيالٍ عَشْرٍ} أي ليال عشر من ذي الحجة. وكذا قال مجاهد والسدي والكلبي في قوله: {وَلَيالٍ عَشْرٍ} هو عشر ذي الحجة، وقال ابن عباس.
وقال مسروق هي العشر التي ذكرها الله في قصة موسى عليه السلام: {وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ} [الأعراف: 142]، وهي أفضل أيام السنة.
وروى أبو الزبير عن جابر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ} قال: «عشر الأضحى» فهي ليال عشر على هذا القول، لان ليلة يوم النحر داخلة فيه، إذ قد خصها الله بأن جعلها موقفا لمن لم يدرك الوقوف يوم عرفة. وإنما نكرت ولم تعرف لفضيلتها على غيرها، فلو عرفت لم تستقبل بمعنى الفضيلة الذي في التنكير، فنكرت من بين ما أقسم به، للفضيلة التي ليست لغيرها. والله أعلم. وعن ابن عباس أيضا: هي العشر الأواخر من رمضان، وقاله الضحاك.
وقال ابن عباس أيضا ويمان والطبري: هي العشر الأول من المحرم، التي عاشرها يوم عاشوراء. وعن ابن عباس {وليال عشر} بالإضافة يريد: وليالي أيام عشر.

.تفسير الآية رقم (3):

{وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3)}
الشَّفْعِ: الاثنان، وَالْوَتْرِ: الفرد. وأختلف في ذلك، فروي مرفوعا عن عمران بن الحصين عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «الشفع والوتر: الصلاة، منها شفع، ومنها وتر».
وقال جابر بن عبد الله: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ- قال: هو الصبح، وعشر النحر، والوتر يوم عرفة، والشفع: يوم النحر». وهو قول ابن عباس وعكرمة. واختاره النحاس، وقال: حديث أبي الزبير عن جابر هو الذي صح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو أصح إسنادا من حديث عمران بن حصين. فيوم عرفة وتر، لأنه تاسعها، ويوم النحر شفع لأنه عاشرها. وعن أبي أيوب قال: سئل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قوله تعالى: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} فقال: «الشَّفْعِ: يوم عرفة ويوم النحر، وَالْوَتْرِ ليلة يوم النحر».
وقال مجاهد وابن عباس أيضا: الشَّفْعِ خلقه، قال الله تعالى: {وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً} [النبأ: 8] {وَالْوَتْرِ} هو الله عز وجل. فقيل لمجاهد: أترويه عن أحد؟ قال: نعم، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ونحوه قال محمد بن سيرين ومسروق وأبو صالح وقتادة، قالوا: {الشَّفْعِ}: الخلق، قال الله تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ} [الذاريات: 49]: الكفر والايمان.، والشقاوة والسعادة، والهدى والضلال، والنور والظلمة، والليل والنهار، والحر والبرد، والشمس والقمر، والصيف والشتاء، والسماء والأرض، والجن والانس. {وَالْوَتْرِ}: هو الله عز وجل، قال جل ثناؤه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 2- 1].
وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن لله تسعة وتسعين اسما، والله وتر يحب الوتر». وعن ابن عباس أيضا: {الشَّفْعِ}: صلاة الصبح {وَالْوَتْرِ}: صلاة المغرب.
وقال الربيع بن أنس وأبو العالية: هي صلاة المغرب، الشفع فيها ركعتان، والوتر الثالثة.
وقال ابن الزبير: الشَّفْعِ: يوما منى: الحادي عشر، والثاني عشر. والثالث عشر الْوَتْرِ، قال الله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْه وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}.
وقال الضحاك: الشَّفْعِ: عشر ذي الحجة، وَالْوَتْرِ: أيام منى الثلاثة. وهو قول عطاء.
وقيل: إن الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ: آدم وحواء، لان آدم كان فردا فشفع بزوجته حواء، فصار شفعا بعد وتر. رواه ابن أبي نجيح، وحكاه القشيري عن ابن عباس.
وفي رواية: الشَّفْعِ: آدم وحواء، وَالْوَتْرِ هو الله تعالى.
وقيل: الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ: الخلق، لأنهم شفع ووتر، فكأنه أقسم بالخلق. وقد يقسم الله تعالى بأسمائه وصفاته لعلمه، ويقسم بأفعاله لقدرته، كما قال تعالى: {وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى} [الليل: 3]. ويقسم بمفعولاته، لعجائب صنعه، كما قال: {وَالشَّمْسِ وَضُحاها وَالسَّماءِ وَما بَناها} [الشمس: 5] {وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق: 1].
وقيل: الشفع: درجات الجنة، وهي ثمان. والوتر، دركات النار، لأنها سبعة. وهذا قول الحسين بن الفضل، كأنه أقسم بالجنة والنار.
وقيل: الشفع: الصفا والمروة، والوتر: الكعبة.
وقال مقاتل بن حيان: الشفع: الأيام والليالي، والوتر: اليوم الذي لا ليلة بعده، وهو يوم القيامة.
وقال سفيان بن عيينة: الوتر: هو الله، وهو الشفع أيضا، لقوله تعالى: {ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ} [المجادلة: 7].
وقال أبو بكر الوراق: الشفع: تضاد أوصاف المخلوقين: العز والذل، والقدرة والعجز، والقوة والضعف، والعلم والجهل، والحياة والموت، والبصر والعمى، والسمع والصمم، والكلام والخرس. والوتر: انفراد صفات الله تعالى عز بلا ذل، وقدرة بلا عجز، وقوه بلا ضعف، وعلم بلا جهل، وحياة بلا موت، وبصر بلا عمى، وكلام بلا خرس، وسمع بلا صمم، وما وازاها.
وقال الحسن: المراد بالشفع والوتر: العدد كله، لان العدد لا يخلو عنهما، وهو إقسام بالحساب.
وقيل: الشفع: مسجدي مكة والمدينة، وهما الحرمان. والوتر: مسجد بيت المقدس.
وقيل: الشفع: القرن بين الحج والعمرة، أو التمتع بالعمرة إلى الحج. والوتر: الافراد فيه.
وقيل: الشفع: الحيوان، لأنه ذكر وأنثى. والوتر: الجماد.
وقيل: الشفع: ما ينمي، والوتر: ما لا ينمي. وقيل غير هذا. وقرأ ابن مسعود وأصحابه والكسائي وحمزة وخلف {والوتر} بكسر الواو. والباقون بفتح الواو، وهما لغتان بمعنى واحد.
وفي الصحاح: الوتر بالكسر: الفرد، والوتر بفتح الواو: الذحل. هذه لغة أهل العالية. فأما لغة أهل الحجاز فبالضد منهم. فأما تميم فبالكسر فيهما.

.تفسير الآيات (4- 5):

{وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)}
قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ} وهذا قسم خامس. وبعد ما أقسم بالليالي العشر على الخصوص، أقسم بالليل على العموم. ومعنى يَسْرِ أي يسرى فيه، كما يقال: ليل نائم، ونهار صائم. قال:
لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ** ونمت وما ليل المطي بنائم

ومنه قوله تعالى: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ} [سبأ: 33]. وهذا قول أكثر أهل المعاني، وهو قول القتبي والأخفش.
وقال أكثر المفسرين: معنى يَسْرِ: سار فذهب.
وقال قتادة وأبو العالية: جاء وأقبل. وروي عن إبراهيم: وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ قال: إذا استوى.
وقال عكرمة والكلبي ومجاهد ومحمد بن كعب في قوله: وَاللَّيْلِ: هي ليلة المزدلفة خاصة، لاختصاصها باجتماع الناس فيها لطاعة الله.
وقيل: ليلة القدر، لسراية الرحمة فيها، واختصاصها بزيادة الثواب فيها.
وقيل: إنه أراد عموم الليل كله. قلت: وهو الأظهر، كما تقدم. والله أعلم. وقرأ ابن كثير وابن محيصن ويعقوب {يسري} بإثبات الياء في الحالين، على الأصل، لأنها ليست بمجزومة، فثبتت فيها الياء. وقرأ نافع وأبو عمرو بإثباتها في الوصل، وبحذفها في الوقف، وروي عن الكسائي. قال أبو عبيد: كان الكسائي يقول مرة بإثبات الياء في الوصل، وبحذفها في الوقف، اتباعا للمصحف. ثم رجع إلى حذف الياء في الحالين جميعا، لأنه رأس آية، وهي قراءة أهل الشام والكوفة، واختيار أبي عبيد، اتباعا للخط، لأنها وقعت في المصحف بغير ياء. قال الخليل: تسقط الياء منها اتفاقا لرءوس الآي. قال الفراء: قد تحذف العرب الياء، وتكتفي بكسر ما قبلها. وأنشد بعضهم:
كفاك كف ما تليق درهما ** جودا وأخرى تعط بالسيف الدما

يقال: فلان ما يليق درهما من جوده، أي ما يمسكه، ولا يلصق به.
وقال المؤرج: سألت الأخفش عن العلة في إسقاط الياء من يَسْرِ فقال: لا أجيبك حتى تبيت على باب داري سنة، فبت على باب داره سنة، فقال: الليل لا يسري وإنما يسرى فيه، فهو مصروف، وكل ما صرفته عن جهته بخسته من إعرابه، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم: 28]، ولم يقل بغية، لأنه صرفها عن باغية. الزمخشري: وياء {يسري} تحذف في الدرج، اكتفاء عنها بالكسرة، وأما في الوقف فتحذف مع الكسرة. وهذه الأسماء كلها مجرورة بالقسم، والجواب محذوف، وهو ليعذبن، يدل عليه قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ} إلى قوله تعالى: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ} [الفجر: 13- 6].
وقال ابن الأنباري هو {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ} [الفجر: 14].
وقال مقاتل: هَلْ هنا في موضع إن، تقديره: إن في ذلك قسما لذي حجر. ف هَلْ على هذا، في موضع جواب القسم.
وقيل: هي على بابها من الاستفهام الذي معناه التقرير، كقولك: ألم أنعم عليك، إذا كنت قد أنعمت.
وقيل: المراد بذلك التأكيد لما أقسم به وأقسم عليه. والمعنى: بل في ذلك مقنع لذي حجر. والجواب على هذا: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ} [الفجر: 14] أو مضمر محذوف. ومعنى {لذي حجر} أي لذي لب وعقل. قال الشاعر:
وكيف يرجى أن تتوب وإنما ** يرجى من الفتيان من كان ذا حجر

كذا قال عامة المفسرين، إلا أن أبا مالك قال: لِذِي حِجْرٍ: لذي ستر من الناس.
وقال الحسن: لذي حلم. قال الفراء: الكل يرجع إلى معنى واحد: لذي حجر، ولذي عقل، ولذي حلم، ولذي ستر، الكل بمعنى العقل. واصل الحجر: المنع. يقال لمن ملك نفسه ومنعها: إنه لذو حجر، ومنه سمي الحجر، لامتناعه بصلابته: ومنه حجر الحاكم على فلان، أي منعه وضبطه عن التصرف، ولذلك سميت الحجرة حجرة، لامتناع ما فيها بها.
وقال الفراء: العرب تقول: إنه لذو حجر: إذا كان قاهرا لنفسه، ضابطا لها، كأنه أخذ من حجرت على الرجل.